أخبار عاجلة

صندوق الرمل: التاريخ خدعة سرديّة

ليس من السهل تقمّص لسان الآخر سيّما إن جمعكما تاريخٌ دامي دون ان تقع في فخ السرد التاريخي الجامد الذي سبق وتلقيناه عبر كتب التاريخ، عائشة إبراهيم فعلتْ ذلك ببراعة شديدة، حتى تحوّل النص بين يديها إلى لعبة مخادعة، تجيدها دون الوقوع في فخاخها، فتعيد بواسطتها تدوين التاريخ الإنساني لهذه المنطقة من العالم بأبعاد جديدة وألوان نادرة، ولا تكتفي بذلك، بل تسدّ الفجوات بخيالها الجامح، فتجد نفسك تبحث وراء الأسماء والشخصيات لعلّها وُجدتْ فعلا في ذاك الزمان.

صندوق الرمل هي روايتها الثالثة بعد قصيل، وحرب الغزالة (التي رُشحت للقائمة الطويلة للبوكر 2020)، ومن يقرأ لعائشة مرة لا بد أن يعيد الكرة، فهي تملك لغة عذبة أنيقة، وتعرف كيف توظف مهاراتها دون إفراط في الزخرفة اللفظية او تفريط في المعنى، ويكأنها تملك مسطرة تعينها على اختيار المفردة المناسبة في المكان المناسب!

تدور أحداث هذه الرواية (التي نرجو وصولها مكتباتنا قريبا جدا) في بدايات الاحتلال الإيطالي لليبيا، عاميْ 1911-1912م، ترصد تفاصيلًا قلّما التفتت إليها المناهج المدرسيّة عندنا، حتى تكونت لدينا صور مشوّهة أسطورية تنقصها ملامح الواقع التي فرضتها البيئة المكانية والزمانية على الليبيين والطليان تلك الآونة.

“في الثورات يتصرف الحظ بنذالة فيقف إلى جانب اللصوص”

يعرف ساندرو كومباريتي ذلك جيّدًا فيقرر تجربة حظه، ساندرو جنديّ إيطاليّ من خلفية بسيطة، يمثل صورة عن الطليان مطلع القرن العشرين في الفترة التي كانت إيطاليا تعاني مشاكل سياسية واقتصادية جمّة، وكانت فكرة احتلال الشاطئ المقابل لهم ترسم أحلامًا رومانسية وطموحات يلهث خلفها كبارهم وصغارهم على حدّ سواء، يدفعهم الوهم بأن في هذا الشاطئ خلاصًا لكل مشاكل الأمة الإيطالية، فتأتي به أحلامه إلى ليبيا ظانًّا أنها لن تتعدى كونها نزهة بحرية، وأن ثمّة بساتين وجنان وثروات تنتظرهم خلف هذا البحر، ثم لا يلبث أن يغرق هو ومن معه في صندوق الرمال المتحركة: الأرض الليبية. يلعب الحظّ أخيرًا دوره مع ساندرو فيُصاب إصابة يحسده عليها زملاؤه وتعود به إلى بلده، وهناك يحاول أن يحكي ما لا يرغب أحد في سماعه، يحاول جاهدًا أن يقف حجر عثرة في مواجهة تيّار الفيضان الهادر مادام لا يملك القدرة على العودة بالزمن والتراجع عما رآه أو فعله، فيتواصل مع صحفيّ عُرف بموقفه المناهض، وعند هذه النقطة تبدأ الرواية.

لن أخوض فيما سيهزّ وجدان هذا الجندي الغافل وغيره من الجنود وهم غارقون داخل صندوق الرمل، ما الذي سيحرك قلبه ويدميه، سأترك للقارئ متعة اكتشاف ذلك، واكتشاف أن “أقسى التجارب التي يمرّ بها الجندي ليست موت رفيقه، ولكن القسوة كل القسوة حين يُمنع من البكاء عليه”، وأن الجندي، كي يصير جنديًّا، كان عليه أن يتحرر من “غائلة الوعي”! الوعي… هو عدوّهم الأول هنا، وربما الحبّ أيضًا.

لن أحكي تفاصيل التحوّل العظيم في شخصيّة ساندرو، ولن أمجّد أيّ بطولات من أي نوع، فعائشة تعمّدت أن تترك للقارئ مساحات مفتوحة للتأويل، مساحات من الحيرة والسخرية والدهشة، دون أن تقحم نفسها في خطاب تمجيديّ مبتذل، ودون ان تورّط قلمها في سرديّات بطولية بأسماء رنانة حفظناها تدغدغ بها بعض القراء.

ثمّة بطولات بكلّ تأكيد، وثمّة أبطال لا تعرفهم ولن تسمع عنهم يومًا، والمرأة الليبية هنا هي الموضوع، هي بطلة الرواية وحجر أساسها، تلك التي لم يسمع عنها أحد، ولم يعرف كيف مضى بها الحال في المنافي بالجزر الإيطالية.

أما النهاية فبداية جديدة تحمل بعض العزاء للقارئ بعد رحلة مرهقة للروح شيّقة للقراءة عبر 200 صفحة غالبا ستنهيها في جلسة أو جلستين.

فليبارك الله هذا القلم

كتبت / كوثر الجهيمي

عن رئيسة التحرير

شاهد أيضاً

يوسف يامن يحصد الذهبية خلال هذا الموسم.

تحصل البطل يوسف يامن على الميدالية الذهبية في لعبة البوتشي بالاولمبياد الخاص المقام بالمانيا.يذكر أنه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *